أولاً: تعريف الحج:
قال ابن منظور: "الحج: القصد، حج إلينا فلان أي قدم، ورجل محجوج أي مقصود، وقد حج بنو فلان فلاناً إذا أطالوا الاختلاف إليه".
قال ابن السكيت: "ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكة للنسك والحجّ إلى البيتِ خاصة."
وقال ابن تيمية: "ثم غلب في الاستعمال الشرعي والعرفي على حج بيت الله سبحانه وتعالى وإتيانه فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد؛ لأنه هو المشروع الموجود كثيراً".
وقال ابن قدامة: "الحج اسم لأفعال مخصوصة".
وقال ابن حجر معرفاً الحج في الشرع: "القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة".
ثانياً: تاريخ الحج:
• بناء البيت:
قال تعالى: ﴿وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منّا إنّك أنت السميع العليم﴾. قال ابن كثير: "القواعد جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول تعالى: واذكر - يا محمد - لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت، ورفعهما القواعد منه، وهما يقولان: ﴿ربنا تقبل منّا إنّك أنت السميع العليم﴾ فهما في عمل صالح، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما".
ثم أعادت قريش بناء الكعبة وشارك النبيُّ صلى الله عليه وسلم في بنائها وعمره وقتها خمس وثلاثون سنة على ما يذكره ابن إسحاق. وقد نقصت مؤنتهم عن إكمال الركنين الشاميين بقدر ستة أذرع من جهة الحطيم.
• نداء إبراهيم:
قال تعالى: ﴿وأذِّن في النّاس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كلّ فجّ عميق﴾.
قال ابن كثير: "أي: نادِ في الناس داعيًا لهم إلى الحجّ إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه فذُكِر أنّه قال: يا ربّ، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا يصلهم؟ فقيل: ناد وعلينا البلاغ. فقام على مقامه، وقيل: على الحجر. وقيل: على الصفا. وقيل: على أبي قبيس. وقال: أيّها النّاس، إنّ ربّكم قد اتخذ بيتًا فحجُّوه، فيقال: إنّ الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيءٍ سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنّه يحجّ إلى يوم القيامة".
فإبراهيم عليه السلام هو أول من حجّ البيتَ.
• شعائر الحجّ من إرث إبراهيم عليه السلام:
عن ابن مربع الأنصاري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قفوا على مشاعركم، فإنّكم على إرثٍ من إرث أبيكم إبراهيم) رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني.
• السعي بن الصفا والمروة:
قال ابن عبّاس ـ في قصة وضع إبراهيم عليه السلام لزوجته هاجر وابنه إسماعيل عند البيت ـ: (وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها فجعلت تنظر إليه يتلوى -أو قال يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات). قال ابن عباس: (فذلك سعيُّ النّاس بينهم) رواه البخاري.
• رمي الجِمار:
عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: ﴿وفديناه بذبح عظيم﴾ قال: (خرج عليه كبش من الجنّة. قد رعى قبل ذلك أربعين خريفًا، فأرسل إبراهيم ابنه واتبع الكبش، فأخرجه إلى الجمرة الأولى، فرماه بسبع حصيات فأفلته عندها، فجاء الجمرة الوسطى فأخرجه عندها، فرماه بسبع حصيات ثم أفلته فأدركه عند الجمرة الكبرى، فرماه بسبع حصيات فأخرجه عندها، ثم أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه، فوالذي نفس ابن عباس بيده لقد كان أول الإسلام، وإنّ رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة قد حشّ). أي يبس.
• حجّ الأنبياء:
وقد جاء في الأخبار بحجّ عدد من الأنبياء مثل موسى عليه السلام ويونس بن متّى عليه السلام.
عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بوادي الأزرق، فقال: (أيّ وادٍ هذا؟). فقالوا: هذا وادي الأزرق. قال: (كأنِّي أنظر إلى موسى عليه السلام هابطًا من الثنيَّة وله جؤارٌ إلى الله بالتلبية). ثم أتى ثنيَّة هرشى. فقال: (أيُّ ثنية هذا؟). قالوا: ثنيَّة هرشى. قال: (كأنّي أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف. خطام ناقته خُلبة، وهو يُلبيِّ) رواه مسلم.
قال النوويُّ: "أخبر عمّا أوحي إليه صلى الله عليه وسلم من أمرهم وما كان منهم وإن لم يرهم رؤيا عين".
وجاء أنّ عيسى عليه السلام سوف يحجّ آخر الزمان.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ليُهلنّ ابن مريم بفجِّ الرّوحاء حاجًّا أو معتمرًا، أو ليثنينهم) رواه مسلم.
• حجّ العرب في الجاهلية:
- الطواف بالبيت عراة:
عن أبي هريرة أنّ أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه بعثه في الحجّة التي أمَّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجّة الوداع يوم النحر في رهطٍ يؤذِّن في النّاس: أن لا يحجَّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. رواه البخاري.
قال عروة: كان الناس يطوفون بالجاهلية عراة إلاّ الحمس. والحمس قريش وما ولدت. وكانت الحمس يحتسبون على الناس، يعطي الرجلُ الرجلَ الثياب يطوف فيها، وتعطي المرأةُ المرأةَ الثياب تطوف فيها. فمن لم تعطه الحمس طاف بالبيتِ عريانًا. رواه البخاري
- وقوف قريش يوم عرفة بالمزدلفة دون عرفة:
قال عروة: كان يفيض جماعة النّاس من عرفاتٍ، وتفيض الحمس من جمعٍ. قال: فأخبرنِي أبي عن عائشة رضي الله عنها أنّ هذه الآية نزلت في الحمس ﴿ثم أفيضوا من حيث أفاض النّاس﴾. قال: كان يفيضون من جمعٍ، فدفعوا إلى عرفات. متفق عليه
وقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا وكان يقف حيث وقف إبراهيم عليه السلام في الجاهلية وفي حجّة الوداع.
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: أضللتُ بعيرًا فذهبتُ أطلبه يوم عرفة فرأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم واقفًا بعرفة، فقلتُ: هذا والله من الحمس، فما شأنه ههنا؟. رواه البخاري.
وعن جابر رضي الله عنه قال: (فلمّا أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريشٌ أنّه سيقتصر عليه، ويكون منزله ثَمَّ، فأجاز ولم يعرض له؛ حتى أتى عرفاتٍ فنَزل) رواه مسلم.
- دفع أهل الجاهلية من عرفات قبل غروب الشمس:
كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفات إذا كانت الشمس على الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال، فخالف النبيُّ صلى الله عليه وسلم فدفع بعد غروب الشمس.
- إفاضة أهل الجاهلية من مزدلفة بعد شروق الشمس:
عن ابن عمر قال: (إنّ المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، وأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس) رواه البخاري.
ثالثا: متى فرض الحج؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اختلف الناس في ذلك اختلافًا مشهورًا، فقيل: سنة خمس، وقيل: سنة ست، وقيل: سنة سبع، وقيل سنة تسع، وقيل: سنة عشر، [و] الأشبه أنه إنما فرض متأخر، يدل على ذلك وجوه:
أحدها: أن آية وجوب الحج التي أجمع المسلمون على دلالتها على وجوبه، قوله: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيل﴾ نزلت متأخرة سنة تسع أو عشر.
وأما قوله تعالى: ﴿وأتموا الحج والعمرة لله﴾ فإنه نزل عام الحديبية وهو أمر بالإتمام لا يتضمن الأمر بالابتداء.
الثاني: أن أكثر الأحاديث الصحيحة في دعائم الإسلام ليس فيها ذكر الحج.
الثالث: أن الناس قد اختلفوا في وجوبه، والأصل عدم وجوبه في الزمان الذي اختلفوا فيه حتى يجتمعوا عليه، وليس هناك نقل صحيح أنه واجب سنة خمس، أو سنة ست".
وقال محمد الأمين الشنقيطي: "والصحيح أن الحج إنما فرض عام تسع".
وقال ابن عثيمين: "وأما فرض الحج فالصواب: أنه في السنة التاسعة ... فإن قيل: لماذا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في التاسعة، وأنتم تقولون على الفور؟
الجواب: لم يحج صلى الله عليه وسلم لأسباب:
1. كثرة الوفود عليه في تلك السنة، ولهذا تسمى عام الوفود، ولا شك أن استقبال المسلمين الذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أمر مهم، بل قد نقول إنه واجب على الرسول صلى الله عليه وسلم ليبلغ الناس.
2. أنه في السنة التاسعة من المتوقع أن يحج المشركون، كما وقع فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخر من أجل أن يتمحض حجه للمسلمين فقط، وكان الناس في الأول يطوفون عراة بالبيت".
رابعا: في أي سنة حجّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم؟
حجّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة، فعن جابر رضي الله عنه قال: (إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحجّ، ثم آذن في الناس في العاشرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجٌ. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمسون أن يأتمّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله) رواه مسلم.
خامسا: وقفات لمن أراد الحج أو العمرة:
إذا عزم المسلم على السفر إلى الحج أو العمرة استحب له ما يلي:
1. المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب:
قال تعالى: ﴿وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾.
قال ابن القيم: "هذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه, وأتى بأداة (لعل) المشعرة بالترجي إيذاناً بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم".
2. رد المظالم إلى أهلها والتحلل منها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم, إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته, وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري.
قال ابن حجر: "قوله: (من عرضه أو شيء) أي من الأشياء وهو من عطف العام على الخاص فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوها، وقوله: (قبل أن لا يكون دينار ولا درهم) أي يوم القيامة، ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: ﴿ولا تزر وازرة وزرة أخرى﴾ لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه ولم يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته, فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله تعالى في عباده".
3. تحرّي النفقة الحلال لحجه وعمرته:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ﴿يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالح﴾ وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ ثم ذكر الرجل يطيل السفر: أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب, ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام , فأنى يستجاب لذلك) رواه مسلم.
قال ابن رجب: "المراد أنه تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان طيباً حلالاً، وقد قيل إن المراد في هذا الحديث أعم من ذلك وهو أنه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً طاهراً من المفسدات كلها كالرياء والعجب ولا من الأموال إلا ما كان طيباً حلالاً، وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يُقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل ويمنع قبوله".
4. أن يقصد بحجه وعمرته وجه الله والدار الآخرة ويحذر من أن يقصد بحجه الدنيا أو الرياء والسمعة:
قال الله تعالى: ﴿من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكور﴾.
قال السعدي: "يخبر تعالى أن من كان يريد الدنيا العاجلة المنقضية الزائلة فعمل لها وسعى ونسي المبتدأ والمنتهى أن الله يُعجل له من حطامها ومتاعها ما يشاؤه ويريده مما كتب الله له في اللوح المحفوظ, ثم يجعل له في الآخرة جهنم".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك, مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) رواه مسلم.
قال النووي: "ومعناه أنا غني عن المشاركة وغيرها, فمن عمل شيئاً لي ولغيري لم أقبله, بل أتركه لذلك الغير, والمراد أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه ويأثم به".
5. تعلم أحكام الحج والعمرة وما يتعلق بهما من شروط الحج وواجباته وأركانه وسننه حتى تعبد الله على بصيرة وعلم:
قال عبد العزيز بن باز: "وينبغي له أن يتعلم ما يشرع له في حجه وعمرته ويتفقه في ذلك ويسأل عما أشكل عليه ليكون على بصيرة".
6. اختيار الرفقة الصالحة: فإنهم خير معين لك في هذا السفر المبارك:
قال تعالى: ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه﴾.
قال السعدي: "ففيهما الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء, فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) رواه الترمذي، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع.
قال المباركفوري: "قوله: (على دين خليله) أي على عادة صاحبه وطريقته وسيرته وقوله: (من يخالل) من المخاللة وهي المصادقة والإخاء فمن رضي دينه وخلقه خاله ومن لا تجنبه فان الطباع سراقة والصحبة مؤثرة في إصلاح الحال وإفساده".